فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولازم ذلك أن يجري في أفعاله تعالى في نظر العقل العملي ما يجري في أفعال غيره بحسب السنن التي سنها.
وعلى ذلك جرى كلامه سبحانه قال: {إن الله لا يظلم الناس شيئا} يونس: 44، وقال: {إن الله لا يخلف الميعاد} آل عمران: 9، وقال: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين} الدخان: 38، وفي هذا المعنى الآيات الكثير التي نفى فيها عن نفسه الرذائل الاجتماعية.
وفي ما تقدم من معنى جريان حكم العقل النظري والعملي في ناحيته تعالى آيات كثيرة ففي القسم الأول كقوله تعالى: {الحق من ربك فلا تكن من الممترين} آل عمران: 60 ولم يقل: الحق مع ربك لأن القضايا الحقة والاحكام الواقعية مإخوذة من فعله لا متبوعة له في عمله حتى يتإيد بها مثلنا، وقوله: {والله يحكم لا معقب لحكمه} الرعد: 41، فله الحكم المطلق من غير أن يمنعه مانع عقلي أو غيره فإن الموانع والمعقبات إنما تتحقق بفعله وهي متأخرة عنه لا حاكمة أو مؤثرة فيه، وقوله: {وهو الواحد القهار} الرعد: 16، وقوله: {والله غالب على أمره} يوسف: 21، وقوله: {إن الله بالغ إمره} الطلاق: 3، فهو القاهر الغالب البالغ الذي لا يقهره شيء ولا يغلب عن شيء ولا يحول بينه وبين أمره حائل يزاحمه، وقوله: {ألا له الخلق والأمر} الأعراف: 54، إلى غير ذلك من الآيات المطلقة التي ليس دونها مقيد.
نعم يجري في أفعاله الحكم العقلي لتشخيص الخصوصيات وكشف المجهولات لا لأن يكون متبوعا بل لأنه تابع لازم مأخوذ من سنته في فعله الذي هو نفس الواقع الخارج، ويدل على ذلك جميع الآيات التي تحيل الناس إلى التعقل والتذكر والتفكر والتدبر ونحوها فلولا إنها حجة فيما أفادته لم يكن لذلك وجه.
وفي القسم الثاني: نحو قوله: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} الانفال: 24، يدل على إن في العمل بالاحكام مصلحة الحياة السعيدة، وقوله: {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء} الأعراف: 28، وظاهره أن ما هو فحشاء في نفسه لا يأمر به الله لا أن الله لو أمر بها لم تكن فحشاء، وقوله: {لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} لقمان: 13، وآيات كثيرة أخرى تعلل الأحكام المجعولة بمصالح موجودة فيها كالصلاة والصوم والصدقات والجهاد وغير ذلك لا حاجة إلى نقلها. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)}
بين في هذه الآية الكريمة أنه قال لإبليس: اخرج منها في حال كونك مذءومًا مدحورًا. والمذءوم: المعيب أو الممقوت، والمدحور: المبعد عن الرحمة، المطرود، وأنه أوعده بملء جهنم منه، وممن تبعه. وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله تعالى: {قَالَ فالحق والحق أَقُولُ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 84-85] وقوله: {قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُورًا} [الإسراء: 63-64]، وقوله: {فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ والغاوون وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعراء: 94-95] إلى غير ذلك من الآيات. اهـ.

.التفسير الإشاري:

قال الألوسي:
ومن باب الإشارة في الآيات: {المص} [الأعراف: 1] الألف إشارة إلى الذات الأحدية واللام إلى الذات مع صفة العلم والميم إلى معنى محمد وهي حقيقته والصاد إلى صورته عليه الصلاة والسلام.
وقد يقال: الألف إشارة إلى التوحيد والميم إلى الملك واللام بينهما واسطة لتكون بينهما رابطة والصاد لكونه حرفًا كري الشكل قابلًا لجميع الأشكال كما قال الشيخ الأكبر قدس سره: فيه إشارة إلى أن الأمر وإن ظهر بالأشكال المختلفة والصور المتعددة أوله وآخره سواء، ولا يخفى لطف افتتاح هذه السورة بهذه الأحرف بناء على ما ذكره الشيخ قدس سره في فتوحاته من أن لكل منها ما عدا الألف الأعراف وأما الألف فقد ذكر نفعنا الله تعالى ببركات علومه أنه ليس من الحروف عند من شم رائحة من الحقائق لكن قد سمته العامة حرفًا فإذا قال المحقق ذلك فإنما هو على سبيل التجوز في العبادة والله تعالى أعلم بحقيقة الحال {كتاب أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن في صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ} أي ضيق من حمله فلا تسعه لعظمه فتتلاشى بالفناء والوحدة والاستغراق في عين الجمع {لِتُنذِرَ بِهِ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 2] أي ليمكنك الإنذار والتذكير إذ بالاستغراق لا ترى إلا الحق فلا يتأتى منك ذلك {وَكَم مّن قَرْيَةٍ} من قرى القلوب {أهلكناها} أفسدنا استعدادها {فَجَاءهَا بَأْسُنَا بياتا} أي بائتين على فراش الغفلة في ليل الشباب {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4] تحت ظلال الأمل في نهار المشيب {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق} [الأعراف: 8] هو عند كثير من الصوفية اعتبار الأعمال.
وذكروا أن لسان ميزان الحق هو صفة العدل وإحدى كفتيه هو عالم الحس والكفة الأخرى هو عالم العقل فمن كانت مكاسبه من المعقولات الباقية والأخلاق الفاضلة والأعمال الخيرية المقرونة بالنية الصادقة ثقلت أي كانت ذا قدر وأفلح هو أي فاز بالنعيم الدائم ومن كانت مقتنياته من المحسوسات الفانية واللذات الزائلة والشهوات الفاسدة والأخلاق الرديئة خفت ولم يعتن بها وخسر هو نفسه لحرمانه النعيم هلاكه {وَلَقَدْ مكناكم في الأرض} إذ جعلناكم خلفاء فيها {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش} متعددة دون غبركم فإن له معيشة واحدة، وذلك لأن الإنسان فيه ملكية وحيوانية وشيطانية فمعيشة روحه معيشة الملك ومعيشة بدنه معيشة الحيوان ومعيشة نفسه الأمارة معيشة الشيطان.
وله معايش غير ذلك وهي معيشة القلب بالشهود ومعيشة السر بالكشوف ومعيشة سر السر بالوصال {قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10] ولو شكرتم ما رضيتم بالدون.
{وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم} أي ابتدأنا ذلك بخلق آدم عليه السلام وتصويره {ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ} فإنه المظهر الأعظم، وفي الخبر «خلق الله آدم على صورته» وفي رواية «على صورة الرحمن» {فَسَجَدُواْ} وانقادوا للحق {إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مّنَ الساجدين} [الأعراف: 11] لنقصان بصيرته {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12] أراد اللعين أنه من الحضرة الروحانية وأن آدم عليه السلام ليس كذلك {قَالَ فاهبط مِنْهَا} أي من تلك الحضرة {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} لأن الكبر ينافيها {فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين} [الأعراف: 13] الأذلاء بالميل إلى مقتضيات النفس {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى} قسم بما هو من صفات الأفعال ولم يكن محجوبًا عنها بل كان محجوبًا عن الذات الأحدية {لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم} [الأعراف: 16] وهو طريق التوحيد {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ} أي لأجتهدن في إضلالهم، وقد تقدم ما قاله بعض حكماء الإسلام في ذلك، وفي تأويلات النيسابوري كلام كثير فيه وما قاله البعض أحسنه في هذا الباب، وذكر بعضهم لعدم التعرض لجهتي الفوق والتحت وجها وهو أن الإتيان من الجهة الأولى غير ممكن له لأن الجهة العلوية هي التي تلي الروح ويرد منها الإلهامات الحقة والالقاءات الملكية ونحو ذلك، والجهة السفلية يحصل منها الأحكام الحسية والتدابير الجزئية في باب المصالح الدنيوية وذلك غير موجب للضلالة بل قد ينتفع به في العلوم الطبيعية والرياضية وفيه نظر.
{وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين} [الأعراف: 17] مستعملين ما خلق لهم لما خلق له.
{قَالَ اخرج مِنْهَا} حقيرًا {مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} مطرودًا {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} بالأنانية ورؤية غير الله تعالى وارتكاب المعاصي {لأمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 18] فتبقون محبوسين في سجين الطبيعة معذبين بنار الحرمان عن المراد وهو أشد العذاب وكل شيء دون فراق المحبوب سهل وهو سبحانه حسبنا ونعم الوكيل. اهـ.

.تفسير الآية رقم (19):

قوله تعالى: {وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أوجب له ما ذكر من الشقاوة تماديه في الحسد وكثرة كلامه في محسوده، التفت إلى محسوده الذي لم يتكلم فيه كلمة واحدة، بل اشتغل بنفسه في البكاء على ذنبه، واكتفى بفعل ربه بما ينجيه من حبائل مكره التي نصبها بما ذكر، ليكون ذلك سبب سعادته، فقال عطفًا على {اخرج منها}: {ويا آدم اسكن} ولما كان المراد بهذا الأمر هو نفسه لا التجوز به عن بعض من يلابسه، أكد ضميره لتصحيح العطف ورفع التجوز فقيل: {أنت وزوجك الجنة}.
ولما كان السياق هنا للتعرف بأنه مكن لأبينا في الجنة أعظم من تمكينه لنا في الأرض بأن حباه فيها رغد العيش مقارنًا لوجوده؛ ثم حسن في قوله: {فكلا} العطف بالفاء الدال على أن المأكول كان مع الإسكان، لم يتاخر عنه، ولا منافاة بينه وبين التعبير بالواو في البقرة، لأن مفهوم الفاء نوع داخل تحت مفهوم الواو، ولا منافاة بين النوع والجنس، وقوله: {من حيث شئتما} بمعنى رغدًا أي واسعًا، فإنه يدل على إباحة الأكل من كل شيء فيها غير المنهي عنه، وأما آية البقرة فتدل على إباحة الأكل منها في أيّ مكان كان، وهذا السياق إلى آخره مشير إلى أن من خالف أمره تعالى ثل عرشه وهدم عزه وإن كان في غاية المكنة ونهاية القوة كما أخرج من أعظم له المكنة بإسجاد ملائكته وإسكان جنته وإباحة كل ما فيها غير شجرة واحده؛ أكد تحريمها بالنهي عن قربانها دون الاكتفاء بالنهي عن غشيانها فقال: {ولا تقربا} أي فضلًا عن أن تتناولا {هذه الشجرة} مشيرًا إلى شجرة بعينها أو نوعها؛ ثم سبب عن القربان العصيان، فإن من حام حول الحمى أوشك أن يواقعه فقال: {فتكونا} أي بسبب قربها {من الظالمين} أي بالأكل منها الذي هو مقصود النهي فتكونا بذلك فاعلين فعل من يمشي في الظلام؛ ثم سبب عن ذلك بيان حال الحاسد مع المحسودين فيما سأل الإنظار بسببه، وأنه وقع على كثير من مراده واستغوى منه أممًا تجاوزوا الحد وقصر عنهم مدى العد. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن هذه الآية مشتملة على مسائل:
أحدها: أن قوله: {اسكن} أمر تعبد أو أمر إباحة وإطلاق من حيث إنه لا مشقة فيه فلا يتعلق به التكليف.
وثانيها: أن زوج آدم هو حواء، ويجب أن نذكر أنه تعالى كيف خلق حواء، وثالثها: أن تلك الجنة كانت جنة الخلد، أو جنة من جنان السماء أو جنة من جنان الأرض.
ورابعها: أن قوله: {فَكُلاَ} أمر إباحة لا أمر تكليف.
وخامسها: أن قوله: {وَلاَ تَقْرَبَا} نهي تنزيه أو نهي تحريم.
وسادسها: أن قوله: {هذه الشجرة} المراد شجرة واحدة بالشخص أو النوع.
وسابعها: أن تلك الشجرة أي شجرة كانت.
وثامنها: أن ذلك الذنب كان صغيرًا أو كبيرًا.
وتاسعها: أنه ما المراد من قوله: {فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} وهل يلزم من كونه ظالمًا بهذا القربان الدخول تحت قوله تعالى: {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [هود: 18]، وعاشرها: أن هذه الواقعة وقعت قبل نبوة آدم عليه السلام أو بعدها، فهذه المسائل العشرة قد سبق تفصيلها وتقريرها في سورة البقرة فلا نعيدها، والذي بقي علينا من هذه الآية حرف واحد، وهو أنه تعالى قال في سورة البقرة: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا} [البقرة: 35] بالواو، وقال هاهنا: {فَكُلاَ} بالفاء فما السبب فيه، وجوابه من وجهين: الأول: أن الواو تفيد الجمع المطلق، والفاء تفيد الجمع على سبيل التعقيب، فالمفهوم من الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو، ولا منافاة بين النوع والجنس، ففي سورة البقرة ذكر الجنس وفي سورة الأعراف ذكر النوع. اهـ.